إنتقل المنتدى الى موقع أخر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

نخلة بلا ظل

اذهب الى الأسفل

نخلة بلا ظل Empty نخلة بلا ظل

مُساهمة من طرف عامر الخير محمد فضل الله الإثنين مايو 26, 2008 8:05 am

نخلة بلا ظل

يكفيه ليعرف موقع بقعة من العالم أن يحدد إحداثياتها على خطوط الطول والعرض، ثم يتمكن من وضع إصبعه فوقها في أي مكان على سطح الكرة الأرضية.
أدار الكرة بكلتا يديه، تقيَّد بالإحداثيات، ورأى موطنه واضحاً جلياً. هذه البقعة الصغيرة الحبيبة، حددها بقلم أحمر، فبرزت مساحتها مميزة على الكرة.
لا يعرف لماذا اختار اللون الأحمر لتحديدها، ربما لأنه ما زال يحتفظ بذاكرته العتيقة بأن هذه الأرض قد رويت بدم والده وأجداده أيام تطهيرها من الغزاة.
أدار الكرة بقوة أكبر وسرعة أكثر، والخطوط الحمر تدور وتدور، فهي موجودة صارخة اللون ثابتة الموقع..
هذه بقعته التي تناديه إليها قوة غريبة لا تقاوم، تشده نحوها جاذبية مذهلة لا تقهر.
هذه أرضه، هذا وطنه، ولكن!!..
أين هو؟ فتّش جيداً، دقّق باهتمام..
أعاد البحث والتمحيص، وتأكد أن عينيه تخونانه، فلابد أنه متجذّر في مكان ما على هذه البقعة الأثيرة من الكون الرحب.
لابد أن يكون نخلة عنيدة في إحدى واحات نخيل وطنه.
يذكر جيداً دموع أمه الساخنة كيف أحرقت قلبه، وأربكت عقله يوم غادر أخوه الطبيب إلى أمريكا للتخصص، وصار بعدها أمريكي الجنسية.
ودموعها يوم ودعت أخاه المهندس الذي لحق بالآخر ليفتح أبواب مستقبله، وبجواز سفر أمريكي أيضاً.
ثم كيف أغمي عليها المسكينة يوم زفاف أخته الوحيدة من صديق لأخويه في بلاد العم سام.
يذكر جيداً كيف احتضنته ليلة أغلقا باب البيت عليهما وحدهما، وقالت وهي تمسح رأسه، وتقبل خديه:
ـ "ويحٌ لأمك يوم تلحق بهم، ويحٌ لأمك يوم تغادر أنت هذه الدار خلفهم، وهنيئاً لوالدك الذي مات في حربه ضد عدو ظنّ أنه هزمه، ودون أن يعلم أنه سيبتلع أولاده في دوامته، ويقتلعهم من حضني، وحضن الأرض التي فداها بدمه، لأبقى وحدي مسماراً مقصوم الظهر مشكولاً في جدار"..
ليلتها بكى مع أمه بحزن، وحقد على تلك البلاد، وأقسم لها أنه سيلتصق بأرضه ولن يغادرها للأبد.
وأوفى بوعده، تمسّك بأنيابه وأظافره، بأمانة أبيه وميراث أجداده.
كافح، ناضل، قاوم الأعاصير التي هزّت عرائش كرومه مرات ومرات قبل مواسم قطاف عنبها، وأحالت خمرها اللذيذ خلاً حامضاً مكوّماً فوق التراب الذي يقدس..
كثيرةٌ هي المرات التي جثا فيها القرفصاء فوق حقول قمحه يبكي سنابله التي ذرتها الريح قبل موعد حصادها بقليل، وكثيرةٌ هي المرات التي أنهض فيها جواده من كبوات كادت تودي بحياتهما معاً..
يدير الكرة الأرضية من جديد، يبحث عنه، يبحث عن نفسه.
أين هو؟.. لكنه لا يجد له ظلاً بين خطوط حدودها. أين هو؟..
ما الذي يمنعه من تحديد موقعه عليها؟.. ما الذي يعيق قدميه عن الثبات فوق ملك اشتراه له والده وأسلافه بثمن غال؟...
وابتلع سؤالاً يوجعه منذ زمن بعيد..
ابتلعه بغصة، لكنه تمرد واندفع، ابتلعه من جديد، ومرة أخرى برز بدمعة تحجّرت في مقلتيه:
لم هو غريب في وطنه؟...
من أين تزحف إليه رعشة الغربة هذه؟... من أين هذه الرجفة التي تهز قلبه بشيء يشبه الخوف وهو بين أهله وناسه؟..
أهله! وناسه! أين هم؟..
منذ أن انضموا لسيل الهجرة الدافق سعياً لاستبدال الهوية، واستحداث الجنسية، شعر وكأن وطنه قد أخذ ينسل مهاجراً من تحت قدميه ملاحقاً تلابيب المغادرين، مهزوماً في مطاردته، وبقي هو يذود عن وجهه صفعات واقع مرير بيد واحدة، وقد شلّت كفه الأخرى علامة استفهام كبيرة لها رنين قيود الحديد...
استعاد الذكريات والحكايات والتاريخ..
هنا مدارج الطفولة والصبا، هنا تشكّل، وتبلور، وصار..
وهنا أيضاً يرى نفسه يتجول وحيداً في الشوارع، لا يؤانسه إلا صوت وقع خطواته الحائرة..
في صدره حنين، في قلبه ألم، في حنجرته ضيق..
يستعرض رفاق الحارة، زملاء المدرسة، معارفه في العمل، ويهز رأسه يائساً، فمن رحل قد رحل غامداً خنجره في نحر الوطن، والباقون قد تبدلوا، ولم يعد يشغلهم نزيف جراح الوطن..
تتسرب إلى خاطره المقهور عبارة تكررها أمه دائماً وكأنها ترد بها على صراع داخلها شبيه بذاك الذي يفتك به الآن:...
ـ "مات زمن الود والمحبة، وهذا زمن المصالح والرغبة"...
يدير الكرة الأرضية بسبابته، هذه الأصقاع كلها أوطان لأهلها، وهو الغريب في وطنه.
من ذا الذي يعيد لعشقه وهجه؟ وكيف السبيل لاسترجاع دفء حبيب هو في الأحضان جافٍ؟!..
أيام زمان، كان يجلس إلى عمران صديق الطفولة، فيفردان أجنحة واقعهما فوق الأرض، وعبر السماء يقصان ريشاً وينبتان آخر، ويعود وقد امتصت جلستهما الكثير من تعبه وقلقه وألمه..
أما اليوم، فقد عزّ لقاؤهما. وصارت تنتابه حالة من الشرود عندما يلقاه، تلح عليه بتفاصيل تقوّض أشياء جميلة جداً داخله. وبإعياء مريض هدّه الألم يدرك أنه قد أضاع عمران أيضاً..
وينكفئ على ذاته بمرارة، فهذا الذي أمامه اليوم شخص آخر مختلف ولا يشبهه.
صار يشبه زملاء الدراسة، يشبه زملاء العمل، يشبه متعهدي الورش التي يعمل فيها، صار يشبه رجال هذا الزمان.
ولكن هو؟! أين هو؟..
وعاد استفهامه يهزّه، ينبش تراب جذوره، يهدد استمراره.
هل هو تلك النخلة العملاقة الصامدة في وجه ريح زمن أهوج مجنون؟
أم هو تلك النخلة الشّامخة في ذاك الهجير وحيدةً بلا ظل؟
أوقف دوران الكرة بين يديه، أشاح بوجهه عنها، وتوقف عن البحث عن موقعه،جالت أصابعه تتحسس رأسه، شدّ قبضة كفه الأيمن، نهض واقفاً، تناول فرشاته ورسم على جدار غرفته واحة نخيل ظليلة غنّاء، ثم اندسّ في فراشه بهدوء تاركاً المصباح إلى جواره... مضاءً...


منقول
عامر الخير محمد فضل الله
عامر الخير محمد فضل الله
عضو نشيط
عضو نشيط

عدد الرسائل : 33
رقم العضوية : : 10
نشيط :
نخلة بلا ظل Left_bar_bleue0 / 1000 / 100نخلة بلا ظل Right_bar_bleue

hb : 0
تاريخ التسجيل : 25/05/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى